المظاهر الإلهية في أسرار العلوم الكمالية، النص، ص: 151
و إن غلبت السوداء، حاكاها بالأشياء السود و الأمور الهائلة.و إنّما حصلت صورة النار- مثلا- في التخيّل عند غلبة الحرارة لأنّ الحرارة- التي في موضع- يتعدّى إلى مجاورها[1]، كما يتعدّى نور الشمس إلى الأجسام؛ بمعنى أنّه سيكون سببا لحدوثه، إذا خلقت الأشياء موجودة، أفاض[2] وجودا فائضا بأمثاله على غيره.و القوّة المتخيّلة منطبعة في الجسم الحارّ، فيتأثّر بها تأثّرا[3] يليق[4] بطبعها؛ كما مرّ أنّ كلّ شيء قابل يتأثّر من شيء فإنّما يتأثّر منه بشيء يناسب جوهر هذا القابل و طبعه. فالمتخيّلة ليست بجسم حتى تقبل نفس الحرارة، فتقبل من الحرارة ما في طبعها للقبول له، و هو صورة الحارّ، فهذا هو السبب فيه.[5]تكملة معرفة سبب العلم بالمغيبات في اليقظةقد عرفت سبب الاطلاع بالغيوب في النوم، من ركود الحواس و اتّصال النفس[6] بالجواهر العقليّة أو النفسيّة و قبولها من تلك المبادئ صورا تناسبها اهتمّت[7] بها.و يمكن أن يكون ذلك[8] لبعض النفوس في اليقظة[9] لوسع قوّتها بالنظر إلى جانب العلوّ و جانب السفل جميعا، كما يقوى بعض النفوس ليجمع في حالةالمظاهر الإلهية في أسرار العلوم الكمالية، النص، ص: 152
واحدة الاشتغال بعدّة أمور، فيكتب و يتكلّم و يسمع[10]. فمثل هذه النفوس التي لها اقتدار ما على ضبط الجانبين يجوز أن يفتّر عنها في بعض الأحوال شغل[11] الحواس و يطّلع على «عالم الغيب»، فيظهر لها منه بعض الأمور كالبرق الخاطف، و هذا ضرب من النبوّة.ثمّ إن ضعفت المتخيّلة، بقى في الحفظ ما انكشف له من الغيب بعينه، [ف] كان وحيا صريحا؛ و إن قويت المتخيّلة و اشتغلت بطبيعة المحاكاة، فيكون هذا الوحي مفتقرا إلى التأويل كما يفتقر الرؤيا إلى التعبير.[12]وصيّةاعلم، أيّها السالك إلى اللّه- تعالى- و الراغب إلى نيل ملكوت ربّه الأعلى و الطالب للنزول في الفردوس الأعلى، أنّ بحر المعرفة ليس له ساحل، إلّا أنّ لكلّ درجة بقدر غوصه و خوضه، و لا يمكن الخوض و الغوص لكلّ من كان مباشر الأعمال السبعيّة و البهيميّة و مزاول المكايد الشيطانيّة؛ لأنّ فيهم رسخت الهيئات الفاسدة[13] و الملكات المضلّة و ارتكمت علىالمظاهر الإلهية في أسرار العلوم الكمالية، النص، ص: 153
أفئدتهم، فبقوا شاكّين[14] حيارى تائهين في تيه الجهالة و ظلمة[15] الحيرة[16]، و قد حبطت أعمالهم و انتكست رءوسهم، فما لهم من معرفة اللّه من نصيب: (الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ)[17].و اعلم، يا أخي، أنّ نفسك مسافر إلى اللّه- تعالى- من أوّل منزل من منازل وجودها، و بدنك مركبك؛ فتأهب للزاد و الاستعداد[18] بالسلاح الذي يدفع بها سرّاق المنازل و قطّاع المراحل حتّى يصلك إلى المطلوب الحقيقي و المقصود اليقيني الذي هو منتهى الغايات.و اعلم أنّ ما سردنا عليك من بعض[19] مسائل الحكمة الحقّة الإلهيّة التي لا يتأتى لكلّ[20] دركه و لا يتيسّر ضبطه إلّا لمن كان فطرته سليمة عن الأمراض الدنياويّة و الوساوس الشيطانيّة و ترك الاشتهار و طلب الجمعيّة، حقّ حقيق بالأخذ، أحقّ بالبيان بل بالتبيان؛ و هذه علانية و عيان عند العقول الأخرويّة و المعرضين عن زهرات الدنيوية[21].فما حقّقت لك ما تيسّر لنا بفضل اللّه و رحمته و ما وصلنا إليه بفيضه من أسرار المبدأ و المعاد، و هو «لكلّ قوم هاد». و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و آله الطيّبين[22].